فصل: تفسير الآية رقم (22):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (22):

{أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (22)}
{أُولَئِكَ الذين حَبِطَتْ أعمالهم فِي الدنيا والاخرة} وجملة {فَبَشّرْهُم} [آل عمران: 21] معترضة بالفاء كما في قولك زيد فافهم رجل صالح، وقد صرح به النحاة في قوله:
فاعلم فعلم المرء ينفعه ** أن سوف يأتي كل ما قدرا

ومن لم يفهم هذا قال: إن الفاء جزائية وجوابها مقدم من تأخير والتقدير زيد رجل صالح؛ وإذا قلنا لك ذلك فافهم وعلى الأول هو استئناف، و{أولئك} مبتدأ، وما فيه من البعد على المشهور للإيذان ببعد منزلتهم في فظاعة الحال، والموصول خبره أي أولئك المتصفون بتلك الصفات الشنيعة الذين بطلت أعمالهم وسقطت عن حيز الاعتبار وخلت عن الثمرة في الدنيا حيث لم تحقن دماؤهم وأموالهم ولم يستحقوا بها مدحًا وثناءًا وفي الآخرة حيث لم تدفع عنهم العذاب ولم ينالوا بسببها الثواب وهذا شامل للأعمال المتوقفة على النية ولغيرها. ومن الناس من ذهب إلى أن العمل الغير المتوقف على النية كالصدقة وصلة الرحم ينتفع به الكافر في الآخرة ولا يحبط بالكفر، فالمراد بالأعمال هنا ما كان من القسم الأول، وإن أريد ما يشمل القسمين التزم كون هذا الحكم مخصوصًا بطائفة من الكفار وهم الموصوفون بما تقدم من الصفات وفيه تأمل.
{وَمَا لَهُم مّن ناصرين} ينصرونهم من بأس الله تعالى وعذابه في أحد الدارين، وجمع الناصر لرعاية ما وقع في مقابلته لا لنفي تعدد الأنصار لكل واحد منهم وقد يدعى أن مجيء الجمع هنا أحسن من مجيء المفرد لأنه رأس آية، والمراد من انتفاء الناصرين انتفاء ما يترتب على النصر من المنافع والفوائد وإذا انتفت من جمع فانتفاؤها من واحد أولى، ثم إن هذا الحكم وإن كان عامًا لسائر الكفار كما يؤذن به قوله تعالى: {وَمَا للظالمين مِنْ أَنصَارٍ} [البقرة: 270] إلا أن له هنا موقعًا حيث إن هؤلاء الكفرة وصفوا بأنهم يقتلون الذين يأمرون بالقسط وهم ناصرو الحق على ما أشار إليه الحديث ولا يوجد فيهم ناصر يحول بينهم وبين قتل أولئك الكرام فقوبلوا لذلك بعذاب لا ناصر لهم منه ولامعين لهم فيه. ومن الناس من زعم أن في الآية مقابلة ثلاثة أشياء بثلاث أشياء الكفر بالعذاب وقتل الأنبياء بحبط الأعمال، وقتل الآمرين بانتفاء الناصر وهو كما ترى.

.تفسير الآية رقم (23):

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)}
{أَلَمْ تَرَ إِلى الَّذينَ أُوْتُواْ نَصيبًا مِّنَ الْكتَب} تعجيب للنبي صلى الله عليه وسلم أو لكل من يتأتى منه الرؤية من حال أهل الكتاب وأ، هم إذا عضتهم الحجة فروا إلى الضجة وأعرضوا عن المحجة، وفيه تقرير لما سبق من أن الاختلاف إنما كان بعد مجيء العلم، وقيل: إنه تنوير لنفي الناصر لهم حيث يصيرون مغلوبين عند تحكيم كتابهم، والمراد بالموصول اليهود-وبالنصيب- الخط، و{من} إما للتبعيض وإما للبيان على معنى {نصيبًا} هو الكتاب، أو نصيبًا منه لأن الوصول إلى كنه كلامه تعالى متعذر فإن جعل بيانًا كان المراد إنزال الكتاب عليهم وإن جعل تبعيضًا كان المراد هدايتهم إلى فهم ما فيه، وعلى التقديرين اللام في {الكتاب} للعهد، والمراد به التوراة- وهو المروي عن كثير من السلف-والتنوين للتكثير، وجوز أن يكون اللام في {الكتاب} للعهد والمراد به اللوح، وأن يكون للجنس؛ وعليه-النصيب- التوراة، و{من} للابتداء في الأول: ويحتملها، والتبعيض في الثاني: والتنوين للتعظيم، ولك أن تجعله على الوجه السابق أيضًا كذلك، وجوز على تقدير أن يراد-بالنصيب- ما حصل لهم من العلم أن يكون التنوين للتحقير، واعترض بأنه لا يساعده مقام المبالغة في تقبيح حالهم، وأجيب بأنه يحتمل أن يكون المقصود تعييرهم بتمردهم واستكبارهم بالنصيب الحقير عن متابعة من له علم لا يوازنه علوم المرسلين كلهم، والتعبير عما أوتوه بالنصيب للإشعار بكمال اختصاصه بهم وكونه حقًا من حقوقهم التي يجب مراعاتها والعمل وجبها.
وقوله تعالى:{يُدْعَوْنَ إِلَى كتَب اللَّه} إما جملة مستأنفة مبينة لمحل التعجيب، وإما حال من الموصول، والمراد بكتاب الله التوراة والإظهار في مقام الإضمار لإيجاب الإيجابة، والإضافة للتشريف وتأكيد وجوب المراجعة، وإلى ذلك ذهب ابن عباس رضي الله تعالى عنه وغيره. وقد أخرج ابن إسحق وجماعة عنه قال: «دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت المدراس على جماعة من يهود فدعاهم إلى الله تعالى فقال النعمان بن عمرو، والحرث بن زيد: على أي دين أنت يا محمد؟ قال: على ملة إبراهيم ودينه قالا: فإن إبراهيم كان يهوديًا فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: فهلما إلى التوراة فهي بيننا وبينكم فأبيا عليه فأنزل الله تعالى الآية» وي البحر: «زني رجل من اليهود بامرأة ولم يكن بعد في ديننا الرجم فتحاكموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تخفيفًا على الزانيين لشرفهما فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما أحكم بكتابكم فأنكروا الرجم فجيء بالتوراة فوضع حبرهم ابن صوريا يده على آية الرجم فقال عبد الله بن سلام: جاوزها يا رسول الله فأظهرها فرجما فغضبت اليهود فنزلت» وهو المروي عن ابن جريج-وحكي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أيضًا-وذهب الحسن وقتادة إلى أن المراد بكتاب الله تعالى القرآن دعوا إليه لأن ما فيه موافق لما في التوراة من أصول الديانة وأركان الشريعة والصفة التي تقدمت البشارة بها أو لأنهم لا يشكون في أنه كتاب الله تعالى المنزل على خاتم رسله.
{ليَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} قيل: أي ليفصل الحق من الباطل بين الذين أوتوا-وهم اليهود- وبين الداعي لهم- وهو النبي صلى الله عليه وسلم في أمر إبراهيم عليه السلام، أو في حكم الرجم، أو في شأن الإسلام، أو بين من أسلم منهم ومن لم يسلم حيث وقع بينهم اختلاف في الدين الحق، وعلى هذا-وهو المرضي عند البعض وإن لم يوافق سبب النزول- ورا أحوج إلى ارتكاب مجاز في مرجع الضمير لا يتعين أن يكون الداعي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقرئ {ليحكم} على البناء للمفعول ونسب ذلك إلى أبي حنيفة.
{ثُمَّ يَتَوَلَّى فَريقٌ مِّنْهُمْ} عطف على {يدعون}، و{ثم} للتراخي الرتبي، وفيه استبعاد توليهم بعد علمهم بوجوب الرجوع إليه، و{منهم} صفة لفريق، ولعل المراد بهذا الفريق أكثرهم علمًا ليعلم تولي سائرهم من باب الأولى قيل: وهذا سبب العدول عن-ثم يتولون- وقيل: الذين لم يسلموا، ووجه العدول عليه ظاهر فتدبر.
{وَهُمْ مُّعْرضُونَ} جوز أن يكون صفة معطوفة على الصفة قبلها فالواو للعطف، وأن تكون في محل نصب على الحال من الضمير المستكن في {منهم} أو من {فريق} لتخصيصه بالصفة فالواو حينئذ للحال وهي إما مؤكدة لأن التولي والإعراض عنى، وإما مبينة لاختلاف متعلقيهما بناءًا على ما قبل: إن التولي عن الداعي والإعراض عن المدعو إليه أو التولي بالبدن والإعراض بالقلب، أو الأول كان من العلماء. والثاني من أتباعهم، وجوز أن لا يكون لها محل من الإعراب بأن تكون تذييلًا أو معترضة، والمراد وهم قوم ديدنهم الإعراض، وبعضهم فسر الجملة بهذا مع اعتبار الحالية ولعله رأى أنه لا يمنع عنها.

.تفسير الآية رقم (24):

{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24)}
{ذلك} أي المذكور من التولي والإعراض وهو مبتدأ خبره قوله تعالى: {بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النار إِلا أَيَّامًا معدودات} أي حاصل لهم بسبب هذا القول الذي رسخ اعتقادهم له وهونوا به الخطوب ولم يبالوا معه بارتكاب المعاصي والذنوب، والمراد بالأيام المعدودات أيام عبادتهم العجل، وجاء هنا {معدودات} بصيغة الجمع دون ما في البقرة (80) فإنه {مَّعْدُودَةً} بصيغة المفرد تفننًا في التعبير، وذلك لأن جمع التكسير لغير العاقل يجوز أن يعامل معاملة الواحدة المؤنثة تارة ومعاملة جمع الإناث أخرى فيقال: هذه جبال راسية، وإن شئت قلت راسيات، وجمال ماشية وإن شئت ماشيات، وخص الجمع هنا لما فيه من الدلالة على القلة كموصوفه وذلك أليق قام التعجيب والتشنيع {وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِم} أي أطمعهم في غير مطمع وخدعهم {مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} أي افتراؤهم وكذبهم أو الذي كانوا يفترونه من قولهم: {لَن تَمَسَّنَا النار} إلخ قاله مجاهد أو من قولهم: {نَحْنُ أَبْنَاء الله وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18] قاله قتادة أو مما يشمل ذلك ونحوه من قولهم: «إن آباءنا الأنبياء يشفعون لنا وإن الله تعالى وعد يعقوب أن لا يعذب أبناءه إلا تحلة القسم» والظرف متعلق بما عنده أو بيفترون واعترضه الخطيب بأن ما بعد الموصول لا يعمل فيما قبله؛ وأجيب بالتوسع.

.تفسير الآية رقم (25):

{فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (25)}
{فَكَيْفَ} استعظام وتهويل وهدم لما استندوا إليه، وكلمة الاستفهام في موضع نصب على الحال والعامل فيه محذوف أي كيف تكون حالهم أو كيف يصنعون أو كيف يكونون، وجوز أن تكون خبرًا لمبتدأ محذوف أي كيف حالهم، وقولهم تعالى: {إِذَا جمعناهم} ظرف محض من غير تضمين شرط والعامل فيه العامل في {فكيف} إن قدر أنها منصوبة بفعل مقدر، وإن قلنا: إنها خبر لمبتدأ مضمر كان العامل في {إذا} ذلك المقدر أي كيف حالهم في وقت جمعهم {لِيَوْمِ} أي في يوم أو لجزاء يوم. {لاَ رَيْبَ فِيهِ} أي في وقوعه ووقوع ما فيه، روي أنه أول راية ترفع لأهل الموقف من رايات الكفار راية اليهود فيفضحهم الله تعالى على رءوس الأشهاد ثم يأمر بهم إلى النار {وَوُفّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ} أي ما عملت من خير أو شر، والمراد جزاء ذلك إلا أنه أقيم المكسوب مقام جزائه إيذانًا بكمال الاتصال والتلازم بينهما حتى كأنهما شيء واحد {وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} شيئًا فلا ينقصون من ثوابهم ولا يزادون في عذابهم بل يعطي كل منهم مقدار ما كسبه، والضمير راجع إلى كل إنسان المشعر به كل نفس، وكل يجوز مراعاة معناه فيجمع ضميره ووجه التذكير ظاهر.

.تفسير الآية رقم (26):

{قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26)}
{قُلِ اللهم مالك الملك} تأكيد لما تشعر به الآية السابقة من مزيد عظمته تعالى وعظيم قدرته؛ وفيه أيضًا إفحام لمن كذب النبي صلى الله عليه وسلم ورد عليه لاسيما المنافقين الذين هم أسوأ حالًا من اليهود والنصارى، وبشارة له صلى الله عليه وسلم بالغلبة الحسية على من خالفه كغلبته بالحجة على من جادله، وبهذا تنتظم هذه الآية الكريمة بما قبلها. روى الواحدي عن ابن عباس وأنس بن مالك أنه لما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وعد أمته ملك فارس والروم قالت المنافقون واليهود: هيهات هيهات من أين لمحمد ملك فارس والروم هم أعز وأمنع من ذلك ألم يكف محمدًا مكة والمدينة حتى يطمع في ملك فارس والروم؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية. وروى أبو الحسن الثعالبي عن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف قال: حدثني أبي عن أبيه قال: خط رسول الله صلى الله عليه وسلم الخندق عام الأحزاب ثم قطع لكل عشرة أربعين ذراعًا قال عمرو بن عوف: كنت أنا وسلمان الفارسي وحذيفة والنعمان بن مقرن المزني، وستة من الأنصار في أربعين ذراعًا فحفرنا فأخرج الله تعالى من بطن الخندق صخرة مدورة كسرت حديدنا وشقت علينا فقلنا: يا سلمان إرق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره خبر هذه الصخرة فإما أن نعدل عنها أو يأمرنا فيها بأمره فإنا لا نحب أن نجاوز خطه قال: فرقى سلمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ضارب عليه قبة تركية فقال: يا رسول الله خرجت صخرة بيضاء مدورة من بطن الخندق وكسرت حديدنا وشقت علينا حتى يحتك فيها قليل ولا كثير فمرنا فيها بأمر فإنا لا نحب أن نجاوز خطك فهبط رسول الله صلى الله عليه وسلم مع سلمان الخندق والتسعة على شفير الخندق فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم المعول من سلمان فضربها ضربة صدعها وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها حتى لكأن مصباحًا في جوف بيت مظلم وكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبير فتح فكبر المسلمون ثم ضربها صلى الله عليه وسلم الثانية فبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها حتى لكأن مصباحًا في جوف بيت مظلم وكبر صلى الله عليه وسلم تكبير فتح وكبر المسلمون ثم ضربها عليه الصلاة والسلام الثالثة فكسرها وبرق منها برق كذلك فكبر صلى الله عليه وسلم تكبير فتح وكبر المسلمون وأخذ بيد سلمان ورقي فقال: سلمان بأبي أنت وأمي يا رسول الله لقد رأيت شيئًا ما رأيت مثله قط فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القوم فقال: رأيتم ما يقول سلمان؟ قالوا نعم يا رسول الله قال: ضربت ضربتي الأولى فبرق لي الذي رأيتم أضاءت لي منها قصور الحيرة ومدائن كسرى كأنها أنياب الكلاب فأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها ثم ضربت الثانية فبرق لي الذي رأيتم أضاءت لي منها القصور الحمر من أرض الروح كأنها أنياب الكلاب وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها ثم ضربت ضربتي الثالثة فبرق لي الذي رأيتم أضاءت لي منها قصور صنعاء كأنها أنياب الكلام وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها فأبشروا فاستبشر المسلمون وقالوا: الحمد لله موعد صدق وعدنا النصر بعد الحفر فقال المنافقون: ألا تعجبون ويعدكم الباطل ويخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى وأنها تفتح لكم وأنتم إنما تحفرون الخندق من الفرق لا تستطيعون أن تبرزوا للقتال فأنزل الله تعالى القرآن: {وَإِذْ يَقُولُ المنافقون والذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُورًا} [الأحزاب: 12] وأنزل هذه الآية {قُلِ اللهم} إلخ، وأصل {اللهم} يا ألله فحذفت يا وعوض عنها الميم وأوثرت لقربها من الواو التي هي حرف علة، وشددت لكونها عوضًا عن حرفين وجمعها مع يا كما في قوله:
إني إذا ما حدث ألمّا ** أقول يا اللهم يا اللهما

شاذ، وهذا من خصائص الاسم الجليل كعدم حذف حرف النداء منه من غير ميم ودخوله عليه مع حرف التعريف وقطع همزته ودخول تاء القسم عليه واللام في القسم التعجبي نحو لله لا يؤخر الأجل ودخول أيمن ويمين عليه في القسم أيضًا، وميم في م الله ووقوع همزة الاستفهام خلفًا عن حرف القسم نحو الله وحرف التنبيه في نحو لاها الله ذا وغير ذلك فسبحانه من إله كل شأنه غريب، وزعم الكوفيون أن أصله يا الله آمنا بخير أي أقصدنا به فخفف بحذف حرف النداء ومتعلقات الفعل وهمزته، ويجوز الجمع عندهم بين يا والميم بلا بأس ولا يخفى ما فيه ويقتضي أن لا يلي هذه الكلمة أمر دعائي آخر إلا بتكلف الأبدال من ذلك الفعل أو العطف عليه بإسقاط حرف العطف وأل في الملك للجنس أو الاستغراق، و{الملك} بالضم على ما ذكره بعض أئمة التحقيق نسبة بين من قام به ومن تعلق، وإن شئت قلت: صفة قائمة بذاته متعلقة بالغير تعلق التصرف التام المقتضي استغناء المتصرف وافتقار المتصرف فيه ولهذا لم يصح على الإطلاق إلا لله تعالى جده وهو أخص من الملك بالكسر لأنه تعلق باستيلاء مع ضبط وتمكن من التصرف في الموضوع اللغوي وبزيادة كونه حقًا في الشرع من غير نظر إلى استغناء وافتقار فمالك الملك هو الملك الحقيقي المتصرف بما شاء كيف شاء إيجادًا وإعدامًا إحياءًا وإماتة وتعذيبًا وإثابة من غير مشارك ولا ممانع، ولهذا لا يقال: ملك الملك إلا على ضرب من التجوز، وحمل {الملك} على هذا المعنى أوفق قام المدح، وقيل: المراد منه النبوة وإليه ذهب مجاهد وقيل: المال والعبيد، وقيل: الدنيا والآخرة، وانتصاب {مالك} على الوصفية عند المبرد والزجاج، وسيبويه يوجب كونه نداءًا ثانيًا، ولا يجوز أن يكون صفة لأللهم لأنه لاتصال الميم به أشبه أسماء الأصوات وهي لا توصف، ونقض دليل سيبويه بسيبويه فإنه مع كونه فيه اسم صوت يوصف، وأجيب بأن اسم الصوت تركب معه وصار كبعض حروف الكلمة بخلاف ما نحن فيه، ومن هنا قال أبو علي: قول سيبويه عندي أصح لأنه ليس في الأسماء الموصوفة شيء على حد اللهم ولذلك خالف سائر الأسماء ودخل في حيز ما لا يوصف نحو حيهل فإنهما صارا نزلة صوت مضموم إلى اسم فلم يوصف والعلامة التفتازاني على هذا وأيد أيضًا بأن وقوع خلف حرف النداء بين الموصوف والصفة كوقوع حرف النداء بينهما فلو جاز الوصف لكان مكان الخلف بعده.
{تُؤْتِى الملك مَن تَشَاء} جملة مستأنفة مبينة لبعض وجوه التصرف الذي يستدعيه مالكية الملك وجوز جعلها حالا من المنادى وفي انتصاب الحال عنه خلاف، وصحح الجواز لأنه مفعول به، والحال تأتي منه كما تأتي من الفاعل، وجعل الجملة خبرًا لمبتدأ محذوف أي أنت تؤتى وأن اختاره أبو البقاء ليس فيه كثير نفع {وَتَنزِعُ الملك مِمَّن تَشَاء} عطف على {تُؤْتِى} وحكمه حكمه، ومفعول {تَشَاء} في الموضعين محذوف أي من تشاء إيتاءه إياه وممن تشاء نزعه منه، و{الملك} الثالث هو الثاني واللام فيهما للجنس أو العهد وليسا هما عين الأول لأن الأول عند المحققين حقيقي عام ومملوكيته حقيقية والآخران مجازيان خاصان ونسبتهما إلى صاحبهما مجازية، واعتبر بعضهم في التفرقة كون المراد من الأول الجميع ومن الآخرين البعض ضرورة أن المؤتى لا يمكن أن يكون الجميع والمنزوع هو ذاك لأنه معرفة معادة، ويراد بها إن لم يمنع مانع عين الأول ولأنه إذا لم يمكن إيتاء الكل لم يمكن نزع الكل لأن الثاني مسبوق بالأول. ومن الناس من حمل {الملك} هنا على النبوة ومعنى نزعها هنا نقلها من قوم إلى قوم أي تؤتى النبوة بني إسرائيل وتنقلها منهم إلى العرب، وقيل: المعنى تعطي أسباب الدنيا محمدًا صلى الله عليه وسلم وأمته وتسلبها من الروم وفارس فلا تقوم الساعة حتى تفتح بلادهم ويملك ما في أيديهم المسلمون، وروي ذلك عن الكلبي، وقيل: تنزعه من صناديد قريش.
{وَتُعِزُّ مَن تَشَاء} أن تعزه في الدنيا والآخرة أو فيهما بالنصر والتوفيق {وَتُذِلُّ مَن تَشَاء} أن تذله في إحداهما أو فيهما من غير ممانعة الغير، وقيل: المراد تعز محمدًا صلى الله عليه وسلم وأصحابه بأن تدخلهم مكة ظاهرين وتذل أبا جهل وأضغاث الشرك بالقتل والإلقاء في القليب، وقال عطاء: تعز المهاجرين والأنصار وتذل فارس والورم، وقيل: تعز المؤمنين بالظفر والغنيمة وتذل اليهود بالقتل والجزية، وقيل: تعز بالإخلاص وتذل بالرياء، وقيل: تعز الأحباب بالجنة والرؤية وتذل الأعداء بالنار والحجاب؛ وقيل: تعز بالقناعة والرضا وتذل بالحرص والطمع وقيل وقيل. وينبغي حمل سائر الأقوال على التمثيل لأنه لا مخصص في الآية، و{تعز} مضارع أعز ضد أذل، والمجرد من الهمزة منه عز ومضارعه يعز بكسر العين، ومنه ما في دعاء قنوت الشافعية، وله استعمالان آخران الضم والفتح، وقد نظم ذلك الإمام السيوطي بقوله:
يا قارئًا كتب الآداب كن يقظا ** وحرر الفرق في الأفعال تحريرًا

عز المضاعف يأتي في مضارعه ** تثليث عين بفرق جاء مشهورا

فما كقل وضد الذل مع عظم ** كذا كرمت علينا جاء مكسورًا

وما كعز علينا الحال أي صعبت ** فافتح مضارعه إن كنت نحريرا

وهذه الخمسة الأفعال لازمة ** واضمم مضارع فعل ليس مقصورًا

عززت زيدًا بمعنى قد غلبت كذا ** أعنته فكلا ذا جاء مأثورًا

وقيل إذا كنت في ذكر القنوت ولا ** يعز يا رب من عاديت مكسورا

واشكر لأهل علوم الشرع إذ شرحوا ** لك الصواب وأبدوا فيه تذكيرًا

{تَشَاء بِيَدِكَ الخير} جملة مستأنفة، وأجراها بعضهم على طرز ما قبلها، وتعريف الخير للتعميم وتقديم الخبر للتخصيص أي: بيدك التي لا يكتنه كنهما، وبقدرتك التي لا يقدر قدرها الخير كله تتصرف به أنت وحدك حسب مشيئتك لا يتصرف به أحد غيرك ولا يملكه أحد سواك، وإنما خص الخير بالذكر تعليمًا لمراعاة الأدب وإلا فذكر الإعزاز والإذلال يدل على أن الخير والشر كلاهما بيده سبحانه، وكذا قوله تعالى المسوق لتعليل ما سبق وتحقيقه {إِنَّكَ على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ} فلا يبعد أن تكون الآية من باب الاكتفاء، وقيل: إنما اقتصر عليه لما أن سبب نزول الآية ما آتى الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم من البشارة بالفتوح وترادف الخيرات، وقيل: لما أن الأشياء باعتبار الشر وعدمه تنقسم إلى خمسة أقسام. الأول: ما لا شر فيه أصلًا. والثاني: ما يغلب خيره على شره. والثالث: ما يكون شرًا محضًا. والرابع: ما يكون شره غالبًا على خيره. والخامس: ما يتساوى الخير والشر فيه، والموجود من هذه الأقسام في العالم القسم الأول والثاني والشر الذي فيه غير مقصود بالذات بل إنما قضاه الله تعالى لحكمة بالغة وهو وسيلة إلى خير أعظم وأعم نفعًا؛ والشر اليسير متى كان وسيلة إلى الخير الكثير كان ارتكابه مصلحة تقتضيها الحكمة ولا يأباها الكرم المطلق، ألا ترى أن الفصد والحجامة وشرب الدواء الكريه وقطع السلعة ونحوها من الأمور المؤلمة لكونه وسيلة إلى حصول الصحة بحسن ارتكابه في مقتضى الحكمة ويعد خيرًا لا شرًا وصحة لا مرضًا وكل قضاء الله تعالى بما نراه شرًا من هذا القبيل، ولهذا ورد في الحديث: «لا تتهم الله تعالى على نفسك» وورد «لا تكرهوا الفتن فإن فيها حصاد المنافقين» وجاء «لو لم تذنبوا لخفت عليكم ما هو أكبر من ذلك العجب العجب» ومن هنا قيل: يا من إفساده صلاح فما قدر من المفاسد لتضمنه المصالح العظيمة اغتفر ذلك القدر اليسير في جنبها لكونه وسيلة إليها وما أدى إلى الخير فهو خير فكل شر قدره الله تعالى لكونه لم يقصد بالذات لأن أحكام القضاء والقدر كما قالوا: جارية على سنن ما اتفقت عليه الشرائع كلها من النظر إلى جلب المصالح وذبّ المفاسد بل بالعرض لما يستلزمه من الخير الأعظم والنفع الأتم يصدق عليه بهذا الاعتبار أنه خير فدخل في قوله سبحانه: {بِيَدِكَ الخير} فلذا اقتصر على الخير على وجه أنه شامل لما قصد أصلًا ولما وقع استلزامًا، وهذا من باب ليس في الإمكان أبدع مما كان وقد درج حكماء الإسلام عليه ولا يعبأ بمن وجه سهام الطعن إليه، وفي شرح الهياكل أن الشر مقضي بالعرض وصادر بالتبع لما أن بعض ما يتضمن الخيرات الكثيرة قد يستلزم الشر القليل فكان ترك الخيرات الكثيرة لأجل ذلك الشر القليل شرًا كثيرًا فصدر عنك ذلك الخير فلزمه حصول ذلك الشر وهو من حيث صدوره عنك خير إذ عدم صدوره شر لتضمنه فوات ذلك الخير فأنت المنزه عن الفحشاء مع أنه لا يجري في ملكك إلا ما تشاء وليس هذا من القول بوجوب الأصلح، ولا ينافيه {لاَّ يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} [الأنبياء: 23] إذ لا يفعل ما يسئل عنه كرمًا وحكمة وجودًا ومنة «لو اطلعتم على الغيب لاخترتم الواقع».